السينما الصينية تعكس مستقبلًا واعدًا للنمو الاقتصادي

السينما الصينية تعكس مستقبلًا واعدًا للنمو الاقتصادي

تسعى الصين في الوقت الراهن إلى تعزيز الطلب الداخلي ليكون المحرك الأساسي لنموها، وذلك في ظل تراجع الصادرات وتزايد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة.

في عام 2025، حقق فيلم “نزها 2” إنجازاً غير مسبوق، حيث أصبح الأعلى إيراداً في تاريخ السينما الصينية، محققًا أكثر من ملياري دولار، متفوقًا على فيلم Inside Out 2 كأعلى فيلم رسوم متحركة إيرادًا على مستوى العالم، هذا النجاح لا يعكس فقط الأرقام القياسية، بل يعكس أيضًا لحظة حاسمة في الاقتصاد والثقافة الصينية، التي تتجه الآن نحو الاعتماد على الطلب الداخلي كمصدر رئيسي للنمو، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد.

هذا ما أفاد به تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي”، حيث أشار إلى دعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ لـ “إطلاق العنان” لقوة الاستهلاك الداخلي كاستراتيجية لمواجهة التحديات الناتجة عن تباطؤ الصادرات وزيادة الرسوم الجمركية من الولايات المتحدة.

على عكس السنوات الماضية التي كانت الحكومة تركز فيها على تحديث الصناعة والاكتفاء التكنولوجي، أصبح تعزيز الإنفاق الاستهلاكي هو الأولوية القصوى، كما أشار رئيس الوزراء لي تشيانغ خلال افتتاح الدورة السنوية لمؤتمر الشعب الوطني في عام 2025.

تحفيز الإنفاق

ورغم تردد القيادة الصينية تقليديًا في تقديم مساعدات مالية مباشرة للأسر، خوفًا من تكوين دولة رفاهية يصعب تمويلها في ظل تفاقم مستويات الدين، إلا أن الضغوط الاقتصادية دفعت المسؤولين للبحث عن طرق بديلة لتحفيز الإنفاق، وأبرزها الاستثمار في الصناعات الثقافية المحلية.

النجاح الكبير لفيلم “نزها 2” يدل على رغبة المستهلكين الصينيين في الحصول على منتجات ترفيهية محلية عالية الجودة، حيث كانت أكثر من نصف الأفلام الأعلى إيرادًا في الصين من إنتاج هوليوود بين عامي 2009 و2012، بينما في عامي 2023 و2024، كانت جميع الأفلام العشرة الأولى محلية بالكامل، مما يعكس تحولًا ملحوظًا في القطاعات الثقافية الأخرى.

ومن الأمثلة البارزة أيضًا لعبة الفيديو Black Myth: Wukong، التي طورت بالكامل بواسطة استوديو صيني، وحققت نجاحًا عالميًا على منصة “ستيم” في 2024، بفضل المبيعات القوية في السوق الصينية، مثل فيلم “نزها 2″، تستلهم اللعبة قصصها من الأساطير الصينية، مما أدى إلى ظهور موجة من المنتجات المرتبطة بها مثل التذكارات السياحية والفنادق ذات الطابع الأسطوري.

مع القيود التي تفرضها بكين على استيراد أفلام هوليوود كجزء من ردها على الرسوم الأمريكية، يبدو أننا سنشهد المزيد من النجاحات الثقافية ذات الطابع الصيني، المصممة للسوق المحلي، حيث أن الغالبية العظمى من إيرادات “نزها 2” (أكثر من 1.97 مليار دولار) جاءت من داخل الصين، بينما لم يُروّج للفيلم خارج البلاد إلا في أوساط الجاليات الصينية.

العلاقة مع القطاع الخاص

هذا التحول الثقافي يتماشى مع بوادر تغيير في علاقة الحكومة الصينية بالقطاع الخاص، فبعد سنوات من القيود الصارمة على شركات التكنولوجيا والترفيه، جاءت لقاءات الرئيس شي مع كبار رجال الأعمال في فبراير ومارس لتبث بعض الثقة بأن مرحلة التضييق قد انتهت، ويبدو أن الحكومة أصبحت أكثر قبولًا بأهمية الابتكار القادم من القاعدة الشعبية، كما يتضح من تأثير فيلم “نزها 2” واختراقات الذكاء الاصطناعي المحلية.

في 16 مارس الماضي، أعلنت الحكومة خطة لتعزيز الاستهلاك، لم تقتصر على دعم سوق العقارات والأسهم، بل شملت أيضًا قطاعات الخدمات مثل الألعاب الإلكترونية والأنيمي والرياضات الإلكترونية، وقد أظهرت تجربة “نزها 2” أن الناس مستعدون للإنفاق، بشرط وجود منتجات تستحق هذا الإنفاق.

يُلاحظ أن الصينيين باتوا ينفقون أكثر على “التجارب” بدلًا من السلع، حيث ارتفع الإنفاق على الخدمات بنسبة 12% خلال عطلة رأس السنة القمرية 2025، مع زيادة بنسبة 84% في العروض الثقافية والخدمات الإبداعية.

قطاعات تلقى قبول وإقبال

ورغم التحديات القائمة، فإن الصين تمتلك المواهب ورؤوس الأموال اللازمة لصنع تجارب ومنتجات عالمية، ومع تخفيف القيود على صناعات التكنولوجيا والثقافة، يمكن أن تزدهر هذه القطاعات وتخاطب تطلعات المستهلكين الصينيين، فعلى الرغم من أن الاستهلاك المحلي لا يزال يمثل حوالي 40% فقط من الناتج المحلي، مقارنة بـ 56% في اليابان وقرابة 70% في الولايات المتحدة، فإن أي زيادة فيه ستكون دفعة قوية للنمو الاقتصادي.

استطلاع حديث لبنك “دويتشه” أظهر ارتفاعًا في ثقة المستهلكين، حيث يتوقع 60% من الصينيين زيادة في دخلهم هذا العام، كما شهدت الأسواق الصينية انتعاشًا قويًا، إذ تفوق مؤشر “هانغ سنغ” على مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” لأول مرة منذ 2009.

بجانب النجاح التجاري، أثار فيلم “نزها 2” أيضًا تفسيرات رمزية، حيث يرى البعض في قصة بطل الفيلم تشبيهًا بموقف الصين على الساحة العالمية: “شيطان” مظلوم يسعى لتحقيق مصيره رغم رفض القوى المتسلطة، كما أثارت بعض الرموز البصرية بالفيلم جدلًا، مثل تصميم القلعة البيضاء الشبيهة بالبنتاغون، و”بطاقات الهوية” الخضراء التي رآها البعض إسقاطًا على البطاقة الأمريكية للإقامة الدائمة.

ورغم أن هذه القراءات قد تكون مبالغة للبعض، إلا أن الحقيقة الأهم هي أن “الطفل الشيطاني” الصيني تفوق على “كابتن أمريكا” في شباك التذاكر، والسؤال الآن: هل سيواصل الصينيون الإنفاق بعد هذه الموجة من الحماس؟ الإجابة تعتمد على مدى قدرة الحكومة على ترجمة هذا الزخم إلى سياسة اقتصادية فعّالة.

قد يهمك أيضاً :-