أندريه بلوين وذاكرة التحرر.. استكشاف صوت المرأة من أعماق إفريقيا

أندريه بلوين وذاكرة التحرر.. استكشاف صوت المرأة من أعماق إفريقيا

تتناول روايات التحرر الوطني في إفريقيا غالبًا القادة الرجال والأحداث الكبرى المتعلقة بالانفصال عن الاستعمار، بينما تُهمل أدوار النساء وتجارب الفاعلين الميدانيين، لكن شهادات النساء اللواتي عايشن النضال تكشف عن جوانب أعمق من التاريخ، وتعيد الاعتبار لمسارات ظلت خارج السرد الرسمي لفترة طويلة
في يناير (كانون الثاني) 2025، صدرت عن دار «فيرسو» البريطانية طبعة جديدة من كتاب «وطني، إفريقيا: السيرة الذاتية للباشوناريا السوداء» ضمن سلسلة تركز على أصوات الجنوب العالمي، ويضم 304 صفحات، حيث تسرد المناضلة السياسية أندريه بلوين في هذا العمل قصة حياة مليئة بالكفاح ضد الاستعمار، مقدمة شهادة نادرة من قلب التحولات التي شهدتها القارة الإفريقية في منتصف القرن العشرين
لقبت بلوين ب«الباشوناريا السوداء» تيمناً بالمناضلة الإسبانية دولوريس إيباروري، المعروفة ب«لا باشوناريا»، التي نالت شهرة واسعة بخطابها الثوري خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ويعكس هذا التشبيه إعجابًا واضحًا بحضورها السياسي القوي ومكانتها المحورية في حركات التحرر الإفريقية، حيث لعبت دورًا فعالًا في صناعة القرار والنضال في مجال كان حكراً على الرجال لفترة طويلة
تبدأ السيرة من طفولة بلوين المبكرة في مستعمرات إفريقيا الاستوائية الفرنسية، حيث وُضعت في دار أيتام بعد أن هجرتها والدتها في سن الثالثة، وعانت من الإهمال وسوء المعاملة داخل مؤسسة رهبانية استعمارية، ثم أُجبرت على زواج مُرتب في الخامسة عشرة، لكنها تمردت على هذا المصير، وجاءت نقطة التحول في حياتها بعد وفاة ابنها الذي لم يتجاوز العامين، بسبب رفض السلطات الفرنسية منحه علاجًا للملاريا بسبب أصوله العرقية المختلطة، مما دفعها للانخراط في العمل السياسي
تستعرض بلوين تجربتها من موقع الفاعل السياسي، متنقلة بين عواصم إفريقية وحركات تحرر متعددة، موثقة علاقاتها بقادة بارزين مثل الرئيس سيكو توري في غينيا، والرئيس كوامي نكروما في غانا، وباتريس لومومبا في الكونغو، حيث عايشت لحظة اعتقاله واغتياله عن قرب، وتقدم هذه الحكايات كذكريات شخصية تسلط الضوء على تعقيدات اللحظة التاريخية التي عاشتها، وعلى التفاعلات الداخلية التي نادرًا ما تظهر في الروايات الرسمية
يتجاوز الكتاب السرد الكلاسيكي للثورات، حيث يلامس البُعد التنظيمي لحركات التحرر، ويتأمل في العلاقات البينية داخلها، والصراعات التي تشكلت في ظلها، وتعيد بلوين الاعتبار لدور النساء في النضال، ليس باعتبارهن ملحقات بالحركة، بل كصاحبات موقع وقرار، في رواية تضيء ما غاب عن الرؤية الذكورية والمؤسسات الاستعمارية معًا، ويبدو أسلوب السرد الذي تتبعه بلوين واضحًا ومباشرًا، حيث يركز على إبراز المعنى السياسي والإنساني وراء كل محطة، مما يجعل ما تكتبه سعيًا لتقديم سردية جماعية تتقاطع فيها المعاناة مع الوعي، والفقد مع التصميم على الاستمرار
في الختام، يمكن القول إنه في سياق يتجدد فيه الاهتمام بإرث حركات التحرر الوطني، تبرز هذه السيرة كوثيقة نادرة تكشف ما يتجاوز الحدث السياسي المباشر، وهي شهادة تعيد رسم ملامح النضال من زوايا غائبة عن السرديات الرسمية، ورغم وطأة الإرث الاستعماري، تظل الذاكرة الإفريقية غنية بمسارات مقاومة حية، مما يتيح من خلال شهادات كهذه فرصة لاستعادة التاريخ من الداخل، بتفاصيله الدقيقة ونبرته الأصيلة، وبصوتٍ يعيد لإفريقيا مكانتها كذات فاعلة في كتابة مصيرها

قد يهمك أيضاً :-