بين نهر النيل ونهر السين: التفاعل الثقافي بين مصر وفرنسا والحوار بين الحضارات

بين نهر النيل ونهر السين: التفاعل الثقافي بين مصر وفرنسا والحوار بين الحضارات

في مشهد يعكس عمق التاريخ وتبادل الثقافات، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس بمرافقة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في جولة داخل أزقة خان الخليلي وساحة مسجد الحسين. لم تكن هذه الزيارة لحظة بروتوكولية فحسب، بل كانت رمزًا يذكرنا بجذور العلاقة الثقافية العريقة بين مصر وفرنسا، ويختصر قرونًا من التبادل الثقافي والحضاري بين بلدين يربطهما شغف عميق نحو المعرفة، واختلاف ثري يفتح أبواب الحوار بدلًا من الصراع.

البداية من الحملة… والثقافة بين الرماد

منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، بدأ فصل جديد من تبادل الثقافة والعلم بين البلدين. وعلى الرغم من أن الحملة كانت غزوًا عسكريًا، إلا أنها جاءت مع مجموعة من العلماء والباحثين، مما أدى إلى تأسيس أول مطبعة حديثة في مصر، وإصدار كتاب “وصف مصر” الذي وثق معالم الحضارة المصرية بتفاصيلها الدقيقة. ثم جاء الدور الثقافي الأكبر مع صعود نجم محمد علي، الذي أرسل بعثات تعليمية إلى فرنسا، ليشهد بداية نهضة فكرية وعلمية غيّرت وجه مصر المعاصر، حيث انطلقت ترجمات الكتب وتأسست مدارس الفنون والآداب، وبرزت ملامح حركة التنوير المصرية.

محمد علي وفرنسا… بداية التنوير الحقيقي

بدأت حركة التنوير مع حكم محمد علي باشا، الذي يُعتبر المؤسس الحقيقي لمصر الحديثة، حيث أرسل البعثات العلمية إلى باريس وأسس أولى مؤسسات التعليم والفكر في مصر على الطريقة الأوروبية لكن بنكهة مصرية، ومن هنا بدأ ظهور طبقة من المثقفين المصريين الذين يتحدثون الفرنسية ويتواصلون مع الفلسفة والعلم والأدب الفرنسي، ثم يعيدون صياغتها بما يتناسب مع الواقع المصري.

صالونات القاهرة… على خطى باريس

خلال النصف الأول من القرن العشرين، تشكلت طبقة ثقافية مصرية تأثرت بباريس، حيث برزت صالونات أدبية ومجلات فكرية وترجمات لأعمال فولتير وروسو وسارتر، إضافة إلى ظهور فنانون وكتّاب مصريين حاوروا هذه الثقافة دون أن يفقدوا هويتهم المصرية، حيث درس طه حسين في السوربون، وكان له تأثير كبير من النزعة العقلانية الفرنسية في مشروعه التنويري، بينما حمل نجيب محفوظ عمق التفاصيل في نثره مع الحفاظ على طابع الحارة المصرية.

الفن والعمارة… لغة أخرى للتواصل

من تصميم وسط القاهرة الأوروبي إلى دار الأوبرا الخديوية القديمة التي أُنشئت خصيصًا لعرض أوبرا عايدة، ومن مباني الجامعة المصرية الأولى إلى الطراز المعماري المستوحى من روح باريس، يتجلى الحضور الفرنسي ليس كمستعمر، بل كشريك في بناء الحداثة.

وجهاً لوجه في العصر الحديث

اليوم، تظل العلاقات الثقافية نابضة بالحياة، إذ تدرس معاهد الثقافة الفرنسية في القاهرة والإسكندرية اللغة الفرنسية لآلاف المصريين، وتدعم المسرح والسينما والفنون البصرية، وبدورهم، يشارك المصريون في معارض باريسية ويدرسون في جامعات فرنسية، في علاقة متبادلة. وقد جسدت جولة ماكرون في خان الخليلي ومروره بجوار المنتجات النحاسية والعطور الشرقية والمقاهي الشعبية حقيقة أن الثقافة لا تعترف بالحدود السياسية، بل تتجاوزها إلى فضاء إنساني أوسع.

نجيب محفوظ… حاضر في لحظة تاريخية

في لفتة رمزية تعكس عمق البُعد الثقافي للزيارة، اختار الرئيسان عبد الفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون أن يتشاركا العشاء في مطعم نجيب محفوظ بخان الخليلي، الذي يُعتبر من أبرز معالم الحي العتيق، ويحمل اسم الأديب المصري العظيم الفائز بجائزة نوبل.

داخل المطعم، الذي يجمع بين الطراز الشرقي الأصيل ولمسة ثقافية راقية، جلَس الرئيسان وسط أجواء تعكس عبق القاهرة القديمة، وتذكير بزمن نجيب محفوظ الذي كتب عن شوارع الحسين، وأزقة الجمالية، ومقاهي القاهرة التي احتضنت شخصيات رواياته. لم يكن هذا العشاء مجرد استراحة في جدول زيارة رسمية، بل كان لحظة حوار حضاري صامت، لقاء في حضور نجيب محفوظ، الذي طالما كتب عن اللقاء بين الشرق والغرب، عن الإنسان حين يلاقي نفسه وسط تحولات العصر، ولو كان بيننا اليوم، لربما كتب قصة جديدة بعنوان: “الرئيس في الحي القديم”.

قد يهمك أيضاً :-