التاريخ ينبه: النزاعات التجارية تؤدي إلى الركود الاقتصادي بسرعة

التاريخ ينبه: النزاعات التجارية تؤدي إلى الركود الاقتصادي بسرعة

تم تحديثه السبت 2025/4/12 11:23 م بتوقيت أبوظبي

يشهد العالم اليوم تباطؤاً اقتصادياً غير مسبوق، حيث أدت تعريفة جمركية فرضتها الولايات المتحدة بنسبة 145% على الواردات الصينية، ورد فعل الصين بتعريفة انتقامية بلغت 125%، إلى توقف فعلي لأكبر علاقة تجارية ثنائية في العالم.

بدأت العواقب تتضح، وفقاً لتحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي”، حيث قد تؤدي إلى صدمة تضخمية وشيكة في الولايات المتحدة واحتمالية تخلي الصين عن شراء سندات الخزانة الأمريكية، مما يهدد استقرار النظام المالي العالمي. على الرغم من منح بعض الدول فترة سماح مؤقتة مدتها 90 يوماً من الرسوم الجمركية الجديدة التي بلغت في بعض الحالات 50%، إلا أن خطر حدوث اضطراب اقتصادي عالمي لا يزال قائماً.

تفاعلت الأسواق المالية بشكل قوي بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رسوم جمركية جديدة شاملة على معظم الواردات الأمريكية في 2 أبريل/نيسان الجاري. وشهدت الأسواق اختفاء تريليونات الدولارات خلال أيام. وبدأ المستثمرون في سحب أموالهم من الدولار الأمريكي وسندات الخزانة، حيث بدأت مؤشرات العدوى المالية بالظهور. ومع تشبث كل من ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ بمواقفهما، يزداد خطر تصاعد هذه المواجهة إلى أزمة اقتصادية عالمية شاملة.

دروس تاريخية

يوفر التاريخ الاقتصادي دروسًا مهمة حول مخاطر الحروب التجارية. فمنذ القرن التاسع عشر، شهدت الولايات المتحدة 6 حالات ركود اقتصادي عميق، يُعرف بأنه انكماش اقتصادي مستمر لستة أرباع متتالية أو أكثر، وكانت جميعها تقريبًا نتيجة مباشرة أو تفاقمت بفعل الرسوم الجمركية والقيود التجارية. من المحتمل أن تتسبب سياسة ترامب الجمركية في أضرار جسيمة ما لم يتم كبحها بسرعة.

لطالما استفادت الاقتصادات من التجارة الدولية وفق مبدأ “الميزة النسبية”، الذي يمكّن كل دولة من التركيز على إنتاج ما تتقنه بأقل تكلفة، سواء كان ذلك في زراعة القمح أو صناعة النسيج أو البرمجيات. وقد أثبت التاريخ صحة هذا المبدأ. ومع ذلك، تميل الدول الكبرى أو التكتلات الاقتصادية -مثل الصين أو الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي- إلى التلاعب بمبادئ التجارة الحرة. إذ قد تتدخل في أسعار صرف العملات أو تدعم قطاعات محددة ماليًا. كما يمكن استخدام الأنظمة البيئية أو قوانين العمل كأدوات غير مباشرة لتعديل التوازن التجاري. وغالباً ما تدعم الاحتكارات المحلية هذه السياسات الحمائية، مما يحميها من المنافسة ويعظم أرباحها.

تاريخياً، كانت الولايات المتحدة عرضة للحروب التجارية بسبب إرثها الاستعماري، حيث كانت بريطانيا تتحكم بتجارة مستعمراتها وتمنعها من تطوير صناعاتها الخاصة، مما ساهم في اندلاع الثورة الأمريكية. لذلك، حاول واضعو الدستور الأمريكي الحد من قدرة السلطة التنفيذية على تغيير السياسات التجارية بشكل مفاجئ، وجعلوا إصدار قوانين العائدات من اختصاص مجلس النواب بموافقة مجلس الشيوخ.

أول أزمة

أول أزمة اقتصادية كبرى في تاريخ الولايات المتحدة بدأت عام 1816، عندما أغرقت بريطانيا الأسواق العالمية بفائض الأقمشة الصوفية بعد انتصارها في حرب نابليون. شعر التجار والمصنّعون الأمريكيون بالتهديد وطلبوا من الكونغرس فرض قيود تجارية. وفي عام 1817، تم إصدار قوانين “الملاحة” التي منعت البضائع البريطانية. ردت بريطانيا بإجراءات منعت صادرات الحبوب الأمريكية إلى مستعمراتها في الكاريبي، مما أدى إلى انهيار أسعار القمح بنسبة 50% وتسببت في تعثر المزارعين عن تسديد ديونهم.

انتشرت “أزمة 1819″، واستمرت القيود التجارية في تشويه الأسواق. نجحت نيويورك جزئيًا في تخليص نفسها عن طريق تهريب القمح إلى كندا، حيث كانت المطاحن الكندية تحوّله إلى طحين يُعاد تصديره للكاريبي. أما الولايات الجنوبية، فقد ازدهرت فقط بعد أن تخلت عن زراعة القمح والأرز لصالح القطن المعتمد على العمل بالسخرة. وساهمت هذه الحرب التجارية في ارتفاع أسعار الغذاء بمزارع الكاريبي إلى درجة دفعت ملاك العبيد هناك للمطالبة بإلغاء العبودية -لكن بشروط تعويض مالي.

داخل أمريكا، أدت القوانين التجارية الدولية إلى تراجع صادرات الحبوب، مما زاد الاعتماد على زراعة القطن والعبودية. لاحقاً، اتخذ الرئيس أندرو جاكسون قرارات مالية متسرعة كإغلاق البنك الوطني ونقل الأموال إلى بنوك تابعة له، مما أجبر المزارعين على الدفع بالذهب، مما تسبب في أزمة مالية كبرى، خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة في بريطانيا، وانتهى الأمر بكساد 1837، حيث هرب ملاك المزارع من ديونهم وانتقلوا إلى تكساس مع عبيدهم.

تكرر الكساد في 1873 بسبب تغيرات في أسعار السلع، ثم في 1893 بعد أن فرض الجمهوريون تعريفات جمركية عالية (قانون ماكنلي)، مما قلل الإيرادات وأفقد الخزانة احتياطيها من الذهب، فانهارت الثقة في السندات الأمريكية.

في الثلاثينيات، ساهم قانون سموت-هاولي في اندلاع الكساد الكبير، إذ أن ارتفاع الرسوم الجمركية بشكل مفاجئ يؤثر على التجارة الدولية بشكل عميق ويؤدي إلى نتائج غير متوقعة.

ووفقاً للتحليل، فإن التاريخ يُظهر لنا أن التغييرات المفاجئة في السياسة التجارية، مثل رفع التعريفات الجمركية، تؤدي دائماً إلى اضطرابات اقتصادية كبيرة. وهذا ما نشهده الآن مع تعريفات ترامب الجمركية. تماماً كما حدث في القرن التاسع عشر، ستضطر الكثير من الشركات اليوم إلى الانسحاب من صفقات قائمة بسبب التكاليف الجديدة المفروضة عليها، تمامًا كما فعل المزارعون والتجار وملاك العبيد في الماضي. على سبيل المثال، أعلنت شركة Howmet، المزود للطائرات في بيتسبرغ، عن “حدث قوة قاهرة”، مما يعني أنها قد توقف الشحنات بسبب تأثير التعريفات.

الكثير من هذه الصفقات ممولة عبر الائتمان، الذي تحتفظ به البنوك وصناديق التحوط وشركات التأمين ومؤسسات مالية أخرى. وبعض هذه الائتمانات يُباع كمشتقات مالية لمستثمرين حول العالم. بينما يمكن لأسواق الأسهم أن تمتص الخسائر بسرعة، تظل أسواق الائتمان أكبر وأكثر تعقيدًا وأقل قدرة على التكيف -كما شهدنا في أزمة 2008.

في ذلك الوقت، تم التدخل من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي الذي بدأ بشراء السندات المتعثرة لإعادة ضخ السيولة في السوق. يعتقد الكاتب (رغم كونه مؤرخاً فقط) أن الاحتياطي الفيدرالي يمكنه التعامل مع الفوضى الحالية حتى الآن. لكن المشكلة الأكبر لم تأتي بعد. فلا نعرف التأثير الكامل لتجميد التجارة مع الصين، ولا نعلم ماذا سيحدث بعد انتهاء فترة التهدئة المؤقتة (90 يومًا) مع بقية دول العالم.

إذا لم يتمكن الكونغرس من استعادة سلطته الدستورية في فرض التعريفات الجمركية -وكانت سلطة التجارة مركزة بيد شخص واحد فقط (كما حدث مع جاكسون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر)- فلا بنك مركزي، حتى الاحتياطي الفيدرالي، سيستطيع إنقاذ السوق من الانهيار المالي العالمي الذي يلوح في الأفق.

تُظهر هذه القصص كيف يمكن أن تؤدي الحروب التجارية إلى عواقب غير متوقعة ومدمرة تطال الاقتصاد والمجتمع على حد سواء. واليوم، تسير السياسات التجارية الأمريكية والصينية على مسار مشابه، مما ينذر بوقوع أزمة عالمية جديدة ما لم يتم التدخل سريعاً لإنهائها.

aXA6IDJhMTM6YWRjMDo6YWYxOmVhZmY6ZmVmNjoyYjUyIA== جزيرة ام اند امز EE

قد يهمك أيضاً :-