
كان يثق بالكلمة عندما كانت تهمة، وكتب للناس بدلاً من كتابة عنهم، إنه الكاتب الصحفي الكبير مصطفى أمين، الذي تُصادف اليوم ذكرى رحيله، لكن سيرته تبقى درسًا مستمرًا في الشجاعة، والإبداع، والالتزام المهني والإنساني.
وُلِد مصطفى أمين في 21 فبراير 1914، في منزل تتنفس جدرانه السياسة، حيث كانت والدته صفية زغلول (ابنة أخت الزعيم سعد زغلول) تُلقّنه دروس الوطنية منذ الصغر، نشأ في قلب الحياة السياسية المصرية، وشهد كيف تُصنع الثورات وتُحاك المؤامرات وتُشترى الضمائر. هذا القرب من السلطة لم يجعله تابعًا، بل زرع فيه حسًا مبكرًا بالاستقلالية والتمرد.
درس مصطفى أمين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم حصل على درجة الماجستير في الصحافة من جامعة جورج تاون في واشنطن عام 1938، وكان من أوائل الصحفيين العرب الذين تلقوا تعليمًا أكاديميًا في الإعلام بالخارج. عاد إلى مصر برؤية جديدة للصحافة: أن تكون قريبة من الناس، تعبر عنهم، لا تمثل السلطة.
بالاشتراك مع شقيقه التوأم علي أمين، أسس دار أخبار اليوم عام 1944، التي أطلقت جريدة “أخبار اليوم”، والتي غيرت وجه الصحافة المصرية. كانت لغة الصحيفة جديدة، قريبة من القارئ، مبتكرة في تصميمها، وكانت تعرض قضايا اجتماعية وسياسية بجرأة غير مسبوقة.
لكن النجاح لم يحل دون اصطدامه بالسلطة؛ ففي عام 1965، تم القبض عليه بتهمة التخابر مع الولايات المتحدة، وهي تهمة أثارت جدلًا واسعًا، حيث رأى كثيرون أن السبب الحقيقي هو معارضته الصريحة لبعض سياسات النظام الناصري.
قضى تسع سنوات في السجن، منها خمس سنوات في الحبس الانفرادي، وعاد بعدها كما دخل، بالقلم نفسه والإصرار ذاته، حيث كتب عن تلك التجربة في كتابه المثير “سنة أولى سجن”.
على الرغم من كل ما مر به، لم يعرف مصطفى أمين الكراهية، بل عاد للكتابة، وكتب عموده الشهير “فكرة” في جريدة الأخبار، حيث كان لديه القدرة على أن يؤثر في الرأي العام، أو يسعد قارئًا، أو يثير قضية في سطور قليلة.
كان مصطفى أمين صحفيًا وروائيًا ومصلحًا اجتماعيًا، ومن أشهر مؤلفاته: من عشرة لعشرين، من واحد لعشرة، نجمة الجماهير، أفكار ممنوعة، الـ 200 فكرة، سنة أولى سجن، الآنسة كاف، مسائل شخصية، ليالي فاروق، ست الحسن، لكل مقال أزمة، أسماء لا تموت، صاحبة الجلالة في الزنزانة، صاحب الجلالة الحب. كانت كل رواية أو كتاب من مؤلفاته مرآة للواقع، ممزوجة بروح الصحفي الذي لا يهدأ، والإنسان الذي لا يتوقف عن الإحساس.
ومن أبرز إنجازاته الاجتماعية تأسيسه لمشروع ليلة القدر، الذي بدأ بفكرة بسيطة لمساعدة المحتاجين، وتحول لاحقًا إلى واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية في مصر، وهو ما اعتبره الكثيرون إنجازًا أعظم من كل ما كتبه.
كان يؤمن بأن الصحافة مسؤولية أخلاقية، وأن دور الكاتب هو إنارة الطريق وليس تجميل الظلال، لذلك أطلق عليه البعض “ضمير مصر”.
خلال حياته، أثار الراحل مصطفى أمين مشاعر الفنانة فاتن حمامة، حيث غضبت عندما رأت عنوان المقال “أكتب لكم من سرير فاتن حمامة”، وتوجهت على الفور إلى مؤسسة «أخبار اليوم» حيث مكتب الراحل. خاطبته وهي في قمة ثورتها بأنه شوه سمعتها التي حافظت عليها طوال حياتها، بادعائه أنه نام في سرير واحد معها، وهي التي لم يتجرأ عليها أحد سواء في الوسط الفني، الذي كانت سيدته اللامعة في ذلك الوقت، أو خارجه. رد أمين سائلاً إياها: هل قرأت المقال؟ فأجابت بأنها قرأت العنوان واكتفت به، فطلب منها قراءة ما يحتويه المقال، حيث كان يكتب عن قصة مرضه وتأكّد الأطباء من ضرورة إجراء جراحة عاجلة له، وانتقائه غرفة في المستشفى، لكنه رأى سريرًا صغيرًا لا يناسبه، وعندما علق على ذلك، رد الطبيب المرافق بأن ذلك السرير كانت ترقد عليه الفنانة فاتن حمامة قبل أيام، بعد دخولها المستشفى لإجراء جراحة.
في بقية المقال، كتب مصطفى أمين: “رقدت في سرير فاتن فوجدته صغيرًا دقيقًا، فكان نصفي في السرير ونصفي خارج السرير، فاتن صغيرة الحجم وأنا ضخم الحجم، وكان من المستحيل عليّ أن أتقلّب في السرير، فأي حركة فيه أجد نفسي واقعًا على الأرض.”
جمع بين مصطفى أمين والفنان عبد الحليم حافظ صداقة قوية، حيث كان الأخير ينظر إليه كالأب والأستاذ، ويستشيره في كل شيء سواء في أغانيه أو في حياته الشخصية. وكان عبد الحليم مناصرًا قويًا لأمين خلال فترة اعتقاله، مؤكدًا دائماً على براءته، وبذل الكثير من الجهد للحصول على تصريح لزيارته في السجن.
تعليقات